mercredi 5 décembre 2007

ديناميكية الحركة الوطنية وتناقضاتها2 . مصير التراث التاريخي لجبهة التحرير الوطني


لقد نجحت فكرة الاستقلال في أقل من أربعين سنة في تكسير الطوق الاستعماري فتجسدت ببراعة في الاعتراف الدولي بالجزائر. واكتنزت خلال هذا المشوار إرثا سنسعى لتتبع مصيره عبر إشكالية التجمع والحوار التي تكلم عنها عبد الحميد مهري بصدد جبهة التحرير الوطني التي كانت بوتقة لها والأزمة الطويلة التي تتخبط البلاد فيها منذ خمسة عشر سنة.

الكفاح المسلح والسياسي

لقد كان العامل "السياسي" في مشروع نوفمبر هو القائد، إذ أن الكفاح المسلح كان الرد ذا الطابع السياسي المرموق لحالة الانسداد آنذاك، ولاسيما أن الشعب سانده بكل قواه، مساندة أبرزت أن العملية ليست مغامرة كما كان يخشاه مصالي والمسئولون الآخرون للـ"ببيا-أمتيالدي" (Mtld-Ppa)، مما أرغم هؤلاء على الالتحاق بالحركة... ولما وضع مُفجرو نوفمبر الاستقلال السياسي كقاعدة دنيا لربط علاقات جديدة مع فرنسا، فإن مبغاهم لم يكن رفض أي تسوية توافقية مع المستعمر، بل كانوا يسعون إلى تحقيق "فصم سوسيولوجي وكذا قطيعة تنظيمية في تاريخ الحركة الوطنية"، حسب تعبير ملائم للأستاذ إلسنهانس، وإلى متابعة النضال طبعا في المُركب السياسي الجديد من أجل استقلال يفتح الطريق أمام بروز رأسمال وطني.
وإن التحاق عبان بالحركة أعطاها دفعة قوية من خلال المجهود الجبار الذي بذله: لربط الصلة بين النواحي المختلفة التي كانت إلى ذاك الحين تنشط كل من جهتها على حدة، وبينها وبين الخارج، ولإعلام الرأي العام الوطني والدولي بمشروعية القضية وحقيقة الكفاح المسلح وحيويته، ولتنشيط الكفاح وتزويده بمساندة كل القوى الاجتماعية التي كان من الممكن لفُّها حوله. ولقد مهد هذا النشاط الحيوي لانعقاد مؤتمر السومام رافعا معنويات جيش التحرير الوطني الفتيّ، حتى صعُبت مهمة المستعمر وأُجبر على إظهار الحقيقة الخبيثة لطابعه اللاإنساني.
وسرعان ما أرغمت الملاحقة والقمع أغلب المسئولين على اللجوء إلى الخارج. مما قلل من أهمية فرضية الأولويتين: أولوية "الداخل" بالنسبة لـ"لخارج" و"السياسي" بالنسبة لـ"لعسكري". وأحس من بقي من مفجري الثورة على قيد الحياة بأن هذا التمييز مُفتعَل وكأنه ينطوي على إرادة حط من قيمة مبادرتهم واعتبارها نشاط يفتقر إلى محتوى سياسي، وتبرير وضعهم كـ"عسكريين" تحت وصاية مسئولين آخرين "سياسيين" مؤهلين لقيادة حركة نوفمبر. فكانوا عازمين على الدفاع عن موقعهم المستحق في القيادة وعلى صون توجه مبادرتهم الأصلي من مغبة "إفساده" هو بدوره تحت غطاء قرارات السومام.

التحدي الخطير الذي طرحته السياسة "الدوغولية"
وتجدر الملاحظة أنه كما يبدو في " المراسلة بين الجزائر والقاهرة"[1]، لم ترتبط المجابهة بمن كانت قامت بينهم في أول الأمر بل تواصل الخلاف والصراع حتى بعد وفاة أو اعتقال زعماء القضية الرئيسيين الأوائل، مما يدل على أن المشكل يتنافس فيه التياران الأساسيان في الحركة الوطنية. ولقد تجلى ذلك في التنافس الذي كان قائما بين من كان يرمز إليهم بـ(les "3 B") "الباءات الثلاث"- الثلاثة كلونيلات في جيش التحرير، بلقاسم كريم و بن طوبال وبوصوف- وبين "السياسيين"، المركزيين السابقين. وكانت خَلْفِيةُ ذاك التنافس التحدي الذي طرحته على قادتنا سياسة دوغولية اتسمت بأكثر واقعية وأكثر هجومية من سابقتها، سياسة الجمهورية الرابعة، وزادت خطورة بقدر ما كان سر منطقها خفيا حتى على أوساط فرنسية نافذة.
إن دوغول سلم بالشرط الذي وضعه نوفمبر لإقامة علاقات جديدة بين البلدين. فسعى لبرد أظافر حركة التحرير بخنق الكفاح المسلح الذي يشكل جوهرها وقوتها الفاتحة. وكان يتوق إلى أن تنبثق خارج جبهة التحرير أو في وسطها "قوة ثالثة" يمكن لها التكفل بحل توافقي نيوكولونيالي- استعماري ذي وجه جديد-. فسلط حربا ضروسا على جيش التحرير وبقي منتبها إلى تطورات ميزان القوة في قيادة الثورة بين التيارات "المعتدلة" للحركة الوطنية والنواة الثورية لقادة الكفاح المسلح الأولين: ويكون قد رأى في ترأس فرحات عباس للحكومةَ المؤقتة عدمَ تفوُّقِ أحد تيارَيْ الامتيالدي السابق المتنافسيْن بينهما على الآخر وإبطالاً متبادلاً لنفوذ بعضهما البعض، ثم في إنشاء اللجنة الوزارية المختلطة المسماة بلجنة "الباءات الثلاث" تفوقا للتيار "الصلب" الذي أفشل بالأمس لعبة العروض الاستعمارية الكاذبة والذي قد يعقد المفاوضات حول الحل التوافقي النيوكولونيالي؛ وأما صعود بن خدة لرئاسة الحكومة المؤقتة فيكون قد مثل بالنسبة لدوغول حسما لصالح التيار الذي كان ينتمي إليه الرئيس الجديد والذي كان برز فيه ميول نحو "الاعتدال".
وبما أن دوغول كان يفضل التعامل مع هذا التيار فكان مثله مثل القط وهو يداعب الفأر، يداعب الحكومة المؤقتة بتقديمه تنازلات مغشوشة: فتراه يقدم اقتراحه بـ"سِلْم الشجعان" الذي يبدو عن طريقه وكأنه يعترف بـ"من هم يكافحون في الميدان" إلا أنه بهذا في الحقيقة يتدخل بحذاقة في الجدل الداخلي للجبهة وكأنه يقول بأن هؤلاء "الشجعان" لا يمكن أن يمثلهم القادة "العسكريون" الذين هم في مأمن في الخارج، وبهذا يطعن في الموقع السياسي "للعسكريين" في الحكومة المؤقتة. كما تراه يضغط بتهديدات تقسيم الجزائر بين جزائر مُسلمة مبتورة من الصحراء والنواحي ذات الكثافة السكانية الأوربية العالية ومحكوم عليها أن تبقى متأخرة، وجزائر فرنسية عصرية وقابلة للتقدم. وهذا أيضا من ضروب الضغط على ما يسميه الطرف الفرنسي "التيار القومي العربي الاشتراكي" لجبهة التحرير الذي لا يمكن أبدا التفاهم معه.
وتُضاف إلى ضغوطات ومناورات العدو الفرنسي هذه تلك التي يضغط بها المحيط الإقليمي والدولي دافعا إلى حل موال للغرب لا يبتعد عن الحلول التي وافق عليها جيراننا المغاربة والتونسيون.
فمِن الطبيعي إذن أن يخيم مناخ شك في وسط القيادة وأن تقوم فيها خلافات داخلية مشروعة حول مسألة السلطة، أي حول الأداة التي تُمكِّن من صياغة ثم تسيير الحل السياسي التوافقي الذي قد تقوم على أساسه العلاقات الجديدة مع فرنسا. ولا سيّما أن الكفاح المسلح الذي أصبح من المستحيل تزويده بالسلاح والكوادر من الخارج، أُخمِد إلى حد أنقص من تمثيلية القيادة، مما جعل الرئيس فرحات عباس يبدي قلقه مما آلت إليه الأمور في أوت 1960.
ولقد أثرت تلك الوضعية تأثيرا كبيرا على الحكومة المؤقتة ولا سيّما على وزرائها المكلفين خصيصا بالكفاح المسلح، "الباءات الثلاث" (les "3 B") وقيادة الأركان العامة لجيش التحرير الوطني، وبلغ المأزق إلى أن أصبح يُفكّر في التخلص بتحوير جذري لسياسة التحالف التقليدية للحركة الوطنية المتسمة بمعاداة الشيوعية وبالحياد. ولقد بقي لها من ذاك الهروب إلى الأمام ما سُمِّي بـ"التوجه الاشتراكي" الذي وإن مكنها من التميز به عن مواقف التبعية النيوكلونيالية (الاستعمارية الجديدة)، إلا أنه كان عنصرا دخيلا على برنامجها الأساسي.
وها بالشعب يتحرك برد فعل سياسي من النوع الذي يواجه به الأوضاع الحاسمة خارجا في مظاهرات عارمة مؤكدا مساندته للكفاح التحرري التي لم يحد عنها منذ أول نوفمبر 54، فأفشل حسابات دوغول الذي كان يظن بعدُ أنه أحكم قبضته على عدو لم يبق له إلا أن يُليِّن مواقفه، وأرجع بذلك للحكومة المؤقتة تمثيلية لم يكن لها أن تتحصل عليه عبر ألف تحالف من الصنف الذي كان يُنوى عقده على حساب استقلال القرار.
ويبقى أنه بالنسبة للهدف الذي سطره الكفاح المسلح والذي نجحت الوطنية الوفية لمبادئها في جمع مختلف قوى الحركة الوطنية لتحقيقه رغم خلافاتها، من حقنا أن نُعلن مع المرحوم سعد دحلب: "لقد أُنجزت المهمة". هذا ما صنع مجد جبهة التحرير الوطني و"تجرُبتَها النضالية الثمينة"... كل هذا تبلور في الإرث الثوري الذي يُتأسَّف لما أصابه من ضياع خلال الأزمة الراهنة ومن إخضاع "للأهواء والحسابات السياسية الضيقة". وطبعا يحتوي هذا الإرث على الأزمة التي تفجرت فور الإعلان على توقف القتال والتي لم يحقنها الهدف المشترك إلى ذاك الحين إلا بصعوبة.

"أفلان" الاستقلال

ولقد توترت الأوضاع حول تثمين اتفاقيات إيفيان حيث كانت الحكومة المؤقتة تجزم عن حق أن الاتفاقيات كرست المطالب الأساسية لنوفمبر وتمثل أقصى ما كان يُمكن التحصيل عليه، في حين أبدت فيه قيادة الأركان العامة لجيش التحرير تحفظات مشروعة بالنسبة لمحتواها النيوكلونيالي. ولقد قام آنذاك خصام حساس بين "العسكريين"، بين "الباءات الثلاث"- وكان يدعمهم زملاءهم "المركزيون" في الحكومة المؤقتة- وبين قيادة الأركان العامة، وكأنها نسخة ثانية للمجابهة التي وقعت بين رجالات نوفمبر- وكان يدعمهم "المركزيون"- وبين مصالي. إلا أنه في القضية هذه لم يكن ممكنا التخلص بالقوة من الوزن السياسي لقيادة الأركان العامة ولا سيما أن زكاها بن بلة، إذ أن الأمور تعقدت بتدخل القادة الخمس المعتقلين الذين شحنوها بنزاعاتهم الخاصة بهم والتي كان سعَّرها سجنُهم الطويل. وبما أنه لم يتم توافق حول برنامج طرابلس رغم إقراره بالإجماع ليصبح ائتلافا مواصلا للتحالف الذي انصهر في جبهة التحرير الوطني، انطلق تسابقٌ على السلطة بين تيارات مختلفة تُمثل كلها "أفلانات" مختلفة.
وتحققت تحت الضغط الشعبي ("سبع سنين بركات") وإلى حد ما، تسوية حول بن بلة بمساندة قيادة الأركان العامة وجيش التحرير الوطني المرابط بالخارج. إلا أن الخلافات برزت من جديد حول "الأفلان" الذي عزم بن بلة على إقامته مستندا في ذلك على برنامج طرابلس ثم على ميثاق الجزائر: "أفلان" أُقصي منه الواحد تلو الآخر رفقاءه السابقون، فأنشأ كل حزبَه "الاشتراكي" – (الأففاس- Ffs - والبياراس- Prs) أو الديمقراطي (الأمديارا - Mdra) – وأعلنوا معارضة مطلقة للسلطة...، "أفلان" توطن فيه بالعكس التيار التروتسكي- الشيوعي مستفيدا من تلك الانقسامات ومن التبني الرسمي للاشتراكية ومن المواقع التي كان قد اغتنمها في النقابات وفي الصحافة...، "أفلان" تطور فيه حس مناهض لروح العسكرية نتج عنه عداء خفي للجيش ولإدارة الدولة الفتية. وأما التيار "المركزي" فبدا وكأنه أخفق إلا أنه بقي متربصا.
وأمام تشرذم القيادة الوطنية وتفتيت جبهة التحرير الوطني ارتأى بومدين أن يضطلع بنفس المسئولية التي اضطلع بها رجال نوفمبر تجاه مستقبل الثورة، فاستولى على السلطة على حساب كل هذه الزعامات موليا الأولوية للجيش والمؤسسات الأخرى للدولة ومستندا في مسعاه هذا على الدفعات الثمينة التي كونها "المالق" (Malg- وزارة التسليح والاتصالات العامة) دون أن يستغني على ما تكوَّن منها في إطار برنامج قسنطينة. وأما "الأفلان"، فنقحه من عنصر اليسار وحوله إلى مجرد جهاز أولاه مهمة "استرجاع" النقابات (للعمال والطلبة) وتخليصها من النفوذ التروتسكي الشيوعي. وقام في نفس الوقت بهيكلة المجتمع وتطوير البلاد في طريق معادية للنيوكلونيالية- الاستعمار الجديد-. كما سعى للم شمل الوطنية واسترجاع لُحمتها بالاستناد على أوسع من قاعدة جهاز الحزب، على "كوادر الأمة" التي استثمر مجهودا جبارا لتحضيرها (في مدارس عسكرية والمدرسة الوطنية للإدارة وجامعات...) واشتهر عمله بتأميم المحروقات واستعمال الريع البترولي لإنشاء رأسمال وطني منتج على قاعدة قطاع اقتصادي معتبر تابع للدولة وانتهاج سياسة معادية للإمبريالية ومساندة لحركات التحرر.
وفي المجال الإيديولوجي "صحح" بومدين ميثاق الجزائر باعتماد الميثاق الوطني لـ1976على أساس ما تحقق من إنجازات منذ 1962. إلا أن معارضيه انتقدوا سياسته "الاشتراكية" انطلاقا من معايير "اشتراكياتهم" وعند وفاته وأمام التكريم الذي كرمه به الشعب اعترف بوضياف بأنه أخطأ عندما عارضه، وكان الوحيد من بين معارضيه الذي وقف هذا الموقف.

إلا أي مدى تذهب المجابهة بين التيارين ؟

وكان العالم وقتها في تطور سريع حيث أن الغرب تخلص من تداعيات انهزام النظام الاستعماري أمام النضال التحرري وانطلق من جديد بمبادرات هجومية لصد مطالب الحركات الوطنية وتثبيت سيطرته. وعوض أن يفكر خلَفُ بومدين في تكييف البلاد مع هذا التطور حتى تتمكن الأمة من مقاومتها له، سارعوا بالعكس إلى الاتفاق بينهم على إقصاء التيار الأكثر وفاء لخطة الرئيس المرحوم من السلطة التي كان قد شاركهم فيها. فاستحوذوا علي أشلاء جبهة التحرير وأقاموا "أفلانا" شديد التحيز إلى حد لم يصله بعدُ وأشركوا في قيادته الضباط السامين للجيش الوطني الشعبي ظنا منهم أن هذا الإجراء سيزيده نفوذا[2]، وجعلوا من هذا الأفلان محور جهاز السلطة، وانتهجوا تحت شعار "من أجل حياة أفضل" سياسة معاكسة لسياسة بومدين التي اعتبروها مفرطة التقشف.
وعوض أن يُدخَل ما كان يجب من إصلاحات على ما كان أقامه بومدين مواصلةً لمجهود التطور، أوقِف الاستثمار، وأصبح تسيير الريع يتسم باللا مسئولية واللا مبالاة إلى حد أن أََُفرِغت الخزانة وأثقل دينٌ لا يطاق كاهلَ البلاد. وانتشرت الرشوة والجِهوية من جراء التصرف السياسي "للأفلان" حيث جُزِّئت معالم الوطنية إن لم تُطمس، مما أدى بالطبع إلى إضعاف مجتمعنا وإخضاعه أعزل إلى نيوكلونيالية لُقِّبت بـ"الصديق". وإن ما زاد انغلاقَ "الأفلان"على العنصر الأمازيغي للشخصية الوطنية خطورةً اللجوءُ فيما يخص الرعاية الدينية إلى استيراد "مرشدين" غير الأئمة الوطنيين الذين كان يذود بومدين عنهم. وإن أدلجة القيم الوطنية هذه أخلت بالتماسك الوطني والاجتماعي إخلالا خطيرا وزادت الطينَ بَلّةً في تعقيد الأزمة التي عصفت بالمجتمع وتعدّدِ أبعادها.
وجاء أكتوبر 1988 بانتفاضته على "نظام الأفلان" القائم منذ رحيل بومدين. فسرعان ما اضطرت سلطة "الأفلان" لإرجاع رمز من رموز "البومدينية"، قاصدي مرباح، إلى سدة الحكم، كما أحست بضرورة مراجعة تركيبها تحت رعاية "الصديق" المهتم بالأمر من وراء البحر وربما حسب إرشادات منه قصد توقيف رجوع التيار "البومديني" للحكم وحتى اقتسام السلطة معه.
ومُسٍح الموسى في المرحوم مساعدية، وأعيد انتخاب الرئيس، وطُرِد مرباح بتهمة عدم التحمس للقيام بالإصلاحات، لتُسنَد هذه المهمة لخَلَفِه المُتحمس لفكرة "إما تمر وإما تتكسر" (ça passe ou ça casse)، حتى يُتَغلَّب على نقاط المقاومة ويُكَرَّس ما تحقق من مكاسب خلال أكثر من عشرية من مسار على المنهاج الريْعي التي لم يُمكِن تكريسها بعدُ في مجال المؤسسات الاقتصادية والمالية... وعُزِّز في قيادة الجيش موقعُ الرجل الذي أضعف المؤسسة قبالة الخطر المرتقب أن تُهدِّد به حركةٌ إسلاميةٌ مُسيَّسَةٌ شجعتها تعدديةٌ مطلقة العنان متحمسةٌ لتدمير الحركة الوطنية بقدرٍ لم تكن لتحلم به "ديمقراطية لا بول"[3]... ولم يزد هذا الترقيع إلا تعقيدا للأزمة.
ولم تزل ضرورةُ التصحيح قائمة: فطُرحت ضرورةُ مغادرةِ الرئيس ثم رجوعٍ إلى الأصل إلى رمز من رموز نوفمبر هذه المرة، بوضياف، الذي نفر من هذا "الأفلان" ونادى بإعادة تأسيس الحركة الوطنية... ثم بعد مأساة وفاته، أُجبِر وزيرُ الدفاع على التنحِّي لصالح القرين الذي رُفِضت وجهته رغم تفوق بُعدِ نظَره عليه بخصوص سياسة الدفاع الوطني، ثم عُيِّن وزيرُ الدفاع الجديد لرئاسة الدولة، فبذل جهدا قويا لتعزيز الدولة ورد الاعتبار لها بعد ما كادت تنهار تحت ضربات إرهاب شرس، ثم قُدِّم للشعب في أولى انتخابات رئاسية تعددية في تاريخ البلاد، فأحس الشعب أن فيها بوادرَ تجديد وتحمَّسَ لها... وانتهج الرئيس الجديد سياسة "الرحمة" و"لم الشمل" لعزل الإرهاب وإرجاع إلى حظيرة الحركة الوطنية جناحِها الذي غره إسلامٌ سياسي مستورد.
وأما "الأفلان"، فها هو يتقوقع حول رجل رمز آخر، من "المركزيين" السابقين، ع.مهري، ويسعى إلى تنظيم ائتلاف يزعم أنه يعمل من أجل إخراج البلاد من الأزمة إلا أنه في واقع الأمر يسعى إلى إدامتها ليمنع التيارَ الوطنيَّ الآخر من إعادة تأمين وجوده في السلطة؛ فتراه يسعى لتكذيب نجوع السياسة التوحيدية التي يدعو إليها الرئيس المنتخب وعدالتها، بل لمعارضته بالسعي لفرض مشروعية حزب تمَوْقَع في موقع غير وطني، "إسلاموي" كمُناقِض ومُعادٍ للحركة الوطنية؛ كما تراه في مسعاه هذا يتذرع بديمقراطية مزيفة ولا يتردد في الاعتماد على التدخل الأجنبي رغم ما يترتب عن ذلك من أخطار على وجدان الأمة ذاته كما يَتَّضِِح في فظاظة المأساة التي ألمت بالأمة العراقية الشقيقة. وبما أن كل هذه المساعي باءت بالفشل أمام متطلبات التصحيح المُلِحَّة فتراه ينادي بإسكان البلاد في مرحلة انتقالية دائمة دون حسم أي شيء...
تلكم معالم الأزمة وهاهم الفاعلون فيها. ويتجلى لُبُّها في الصراع والتفاعل بين التيارين الأساسيين للحركة الوطنية على السلطة أي على ما يُعطي قُدرةَ توجيه السياسة الوطنية. ويجري هذا الصراع تحت ضغط مصالح أصبح من الصعب التجرؤ على تسميتها بالنيوكلونيالية مما يدل على مدى استرجاع الغرب لزمام المبادرة، إلا أن الصراع يتتبعه أيضا شعبُنا بيقظة دائمة ولا يتراجع عن التدخل فيه كما فعل في أول نوفمبر 54 ثم في ديسمبر 60 ثم في 62 عند الاستقلال ثم في 88... في الأوقات الحاسمة لحسم الموقف بوزنه الثقيل لصالح الحلول- من بين التي تُقدِّمها له نُخبُه- التي يراها تخدم المصلحة الوطنية.

عبد العليم المجاوي
مجاهد، كاتب (أفريل 2004)

[1] راجع مبروك بلحسين، المراسلة بين الجزائر والقاهرة، 54-56، دار القصبة، الجزائر، 2000 (بالفرنسية) ما ورد على يد عبان في رسالة مؤرخة بالرابع من نوفمبر55 (ص.108) يؤكد فيها بصراحته الجافية أن : "... بن بلة ليس ممثلا لجيش التحرير الوطني في القاهرة، ولا بوضياف ولا أيت أحمد ولا خيدر ولا لحول، الخ. إنكم وطنيون هاجرتم إلى الشرق. وكلفتكم جبهة التحرير وجيش التحرير الوطني بمهمة. ليس إلا (...) أما بن بلة وبوضياف فمهتهما تقتصر على مصلحة العتاد والاتصال معنا..." وأوضح (ص.95) في رسالة سابقة (8.10.55) عن حديث مع الصحافي بارا لـ"فرانس أبسرفاتور" أنه لـ"السارجان" عمران ولمفوض سياسي للجبهة..."
[2] والغريب في هذا أن من أقدم على هذه الخطوة التي رسمت لأول مرة موقعا للقيادة السامية للجيش في السلطة السياسية هو التيارُ الذي كان دائما يشتكي من هيمنة "العسكريين" على "السياسيين" في قيادة جبهة التحرير الوطني...
[3] "الديمقراطية" التي أفتى بها الرئيس الفرنسي ميتيران في اجتماع "لا بول" (La Baule) على "ضيوفه" الرؤساء الأفارقة ليتحلوا بها في بلادهم إن أرادوا رضاءه عنهم ومساعدته لهم.

Aucun commentaire: