mercredi 5 décembre 2007

ديناميكية الحركة الوطنية وتناقضاتها

لقد اطلعت باهتمام بالغ على مداخلة عبد الحميد مهري بعنوان: "أزمة الأفلان"، لب المشكل، (الوطن، 15 فيفري 2004) وها بعض ما ساور بالي من أفكار إثر ذلك.
لم يكن لي الشرف أن انتسبت إلى نخبة المناضلين – وهو من أواخر من بقي من بركتهم – الذين نشطوا حزب الوطنية تحت قيادة مصالي الحاج منذ الثلاثينيات من القرن الماضي، وإني مدين لذلك الرعيل الأول لما حضروه من ظروف أتاحت لي شرف المساهمة المتواضعة تحت قيادتهم ومعهم في إنتاج الناتج الجبار الذي كان بالنسبة لنا حلما مستحيل التحقيق. وإن الأمة عبر أجيالها الجديدة تعترف لهم بالجميل وتتعود على تكريمهم وتبجيلهم كلهم دون التفريق بينهم، ولربما قد يستعصي عليها إيجاد ما يكفيها من إنجازات مرموقة لوضع أسمائهم على واجهاتها.
ولقد قدرت كثيرا أن أبدى ع. مهري "وعيه بأنه على الذي عايش مثله الكثير من تلك الأزمات في جبهة التحرير وقبلها، ليس بالسهل محو آثار الماضي في الحكم على الحاضر"، وأن نبه بعبء "ذاتية التجربة المباشرة" على ما يكتب. مما يشجع على التعقيب على مداخلته. وسأسائله بكل احترام في نقطتين اثنتين: أولاهما "لب" الاختلاف الذي لا يجب "التحايل" عليه، وثانيهما "التجمع" و"الحوار".

1. التراث التاريخي والشعبي لـ"لأفلان"

لقد اجتهد ع. مهري لتوضيح أزمة "الأفلان" الراهن بمقارنته لها بأزمة حزب الشعب مع إبراز تحفظ لما قد ينجرّ من مجازفة عن هذه المقارنة لما تختلف فيه الوضعيتان سياسيا وتاريخيا. فيقول إنه "يكتشف في الحالتين تشابها في استحالة (...) مجابهة المأزق السياسي..." ويُنسِب عن جدارة مأزق الأمس "إلى تعنت الإدارة الاستعمارية" في وجه مطالب واقتراحات الحركة الوطنية، مضيفا أنه "ما من شك أن العجز المكبوح (...) كان سبب انفجار ذاك الصراع العقيم" وأن "محاولة التحايل على ذلك المأزق بالقفز دونه وغض النظر عنه أدى بالأطراف المتصارعة إلى الدخول في حلقة مفرغة والسقوط في فخ التشخيص والقذف والمجادلة العقيمة".
وكنت أترجى تفسيرا مقنعا للُبّ المشكل يقدمه أخيرا طرفٌ في الأزمة مؤهلٌ لذلك يكون قد تمكن من التفاعل مع الأحداث بعد أن همد غليانُها مع مر الزمان. إلا أنني اضطررت إلى الرجوع إلى مراجع أخرى لأتمكن من فهم ما ورد عنه من تلميح أكثر منه من وضوح بخصوص أزمة حزب الشعب دون أن يتعرض لصميمها. وجاء عنه أن الأزمة تمحورت حول مسؤولية "التداعيات السلبية الناجمة عن سياسة قام الجميع بتدبيرها وتنفيذها (...) فيما يخص النشاط السياسي العلني (المشاركة في الانتخابات البلدية الجزائرية) أو النشاط السري (إنشاء المنظمة الخاصة المسلحة ثم التعامل مع انعكاسات كشفها من طرف السلطات الفرنسية)." وأمام هذا الوضع قلد كلا الطرفين – رئيس الحزب، مصالي الحاج، واللجنة المركزية – الطرفَ الآخر مسؤولية المأزق. وها بنوفمبر يتقدم كحل له.
وذكر ع. مهري أن مصالي كان مؤيدا للجوء إلى الكفاح المسلح، كما تفوه به لمصطفى بن بولعيد، إلا أنه كان يقيد انطلاقه بحتمية "تطهير الحزب". وأن مناصرين لمصالي اعتدوا على بوضياف ورفقاء له الذين كانوا منهمكين في تحضير نوفمبر وكان المعتدون أُقنِعوا بأنه من حقهم معاقبة "انحرافيين"، الشيء الذي كاد أن يؤدي إلى اعتقال المعتدى عليهم. وإما الطرف الآخر فإن "الفقيد بن يوسف بن خدة الأمين العام للحزب" كان "يرسل البعثة تلو الأخرى من المركزية ليوضح للمناضلين أن مصالي لم يحترم القانون الأساسي للحزب". وأبرز ع, مهري تفاهة ذاك النشاط بروايته لشهادة شخصية رواها عليه "أحد المركزيين الذين شاركوا في تلك الحملة" حيث قال له أنه "عقد قبل اندلاع الثورة اجتماعا مع مناضلين استمعوا له بأدب ثم التحقوا غير مبالين بما سمعوه منه بالمواقع التي حُددت لهم في الكفاح المسلح".
وقبل التمعن فيما يُطلعنا ما يرويه لنا ع. مهري على لب الأزمة لا بد من السعي لتبيان ماهية هذا التباين في صفوف الحزب الاستقلالي.
تياران أساسيان في المجتمع
إن فكرة الاستقلال كحل وحيد للمشكل الاستعماري كانت، إلى غاية أزمة 54، محل إجماع في حزب الشعب-الحركة من أجل انتصار الحريات الديمقراطية [الـ"ببيا-أمتيالدي" (ppa-mtld)] ضد أوهام إمكانية حلها بإصلاحات في ضل الاستعمار كما كانت تتوهم به التنظيمات التي كانت تنضم إليها النخب الاجتماعية الثقافية (المسماة بـ"المعتدلة" من "المنتخبين" و"أحباب البيان" و"العلماء". وإننا لا نذكر هنا الشيوعيين لأنهم كانوا معادين أصلا للاستعمار إلا أنهم كانوا من جهتهم يقعون في وهم تغيير الوضع الاستعماري عن طريق الثورة الاشتراكية في فرنسا...)
ولقد ترسخت فكرة الاستقلال وأحرزت تقدما إلى حد أن برز تيار استعماري في الخمسينيات مصرحا بأنه يفضل الشراكة مع "نصف ثوار" عوض التعامل مع "عملاء" (ويقصد هنا الخاضعين من الجزائريين أو على الأقل "المعتدلين" منهم). وفي 1953 أقيمت تجربة شراكة لتسيير بلدية الجزائر تجسيدا لذاك الاعتراف الاستعماري بالحركة الوطنية... إلا أن الموقف بدا لمصالي وللمناضلين الموشكين على تفجير نوفمبر وكأنه بزوغ ظاهرة الوهم الإصلاحي – في قلب حزب الاستقلال هذه المرة –، الوهم بأنه، ببعض من الذكاء السياسي وبتوسيع التحالفات، يمكن استدراج الاستعمار إلى الاعتراف باستقلال الجزائر أو بعبارة أخرى يمكن إصلاح الاستعمار.
غير أن هذا الفكر الإصلاحي يختلف عما سبقه من فكر "معتدل"، إذ أنه لا يقتصر على التعبير عن انشغالات نخبوية مثل سابقيه، بل هو تعبير على انشغالات أوسع تجدرا في المجتمع وتجسيد لانتعاش نخب تقليدية كانت صمدت أمام المساعي الرامية للقضاء على وجودها الاجتماعي الاقتصادي وأصبحت تسعى للترسكل في حظيرة الفكر الاستقلالي مبدية إرادتها في تبوئها لدورها في قيادة المجتمع، متمثلة للنخب القيادية في البلدان المجاورة لبلادنا، طامحة في استدراج الاستعمار للمفاوضة معها على استقلال الجزائر، مما كان يضفي عليها شرعية كتيار اجتماعي أساسي لا تقل ضرورته عن ضرورة التيار الراديكالي بالنسبة لاستقرار المجتمع.
وقد تبلورت تلك الشرعيتان بتميزهما عن بعضهما البعض عبر مسار طويل، كلاهما ساع - في وجه الحكم الاستعماري- لتغليب نظرته للنضال الوطني التحرري على نظرة الآخر ومدافع عن منطق منافس لمنطق الآخر ومؤسس لقواعدَ تصنيف للمهام والوسائل مغايرةٍ لقواعدِ الآخر إن لم تكن تناقضها، ولكن قصد نفس المهمة، مهمة الحصول على استقلالية القرار السياسي. وتخللت هذا المسار التبلوري- التمييزي محطات هامة، منها الأزمة "البربرية" في 1949 وانفصام 1954 الذي شكل حسما أولَ في التباين.

لب المشكل

فمما كان مصالي يريد "تطهير الحزب" ؟ إنه كان يقصد الكيفية التي كانت اللجنة المركزية تنفذ بها توصيات المؤتمر الثاني للحزب: سياسة نعتها بالنيوكوكلونيالية أي الاستعمارية الجديدة. وكانت المركزية تنكر أنها تستحق هذا النقد. ويذكر ع. مهري عن حق أن المركزية وأمينها العام "لا يمكن التشكيك في وطنيتهم وفي اقتناعهم بضرورة الكفاح المسلح"، كما هو وارد في توصيات مؤتمرهم المنعقد بالعاصمة في أوت 54، في الفقرات الخاصة بـ"وسائل النضال" وبـ"سياسة الوحدة".
وكانت جماعة نوفمبر هي أيضا تنبذ سياسة المركزية، وكانوا ينادون بـ"تطهيرها"، مستعملين في تصريح أول نوفمبر كلمة خطيرة لنعتها: كلمة "الفساد"، ومبرزين الوهم الذي كان يقود تلك السياسة. وقد أدخلوا في المعادلة جيش التحرير كرمز لجزائر أصبحت تفاوض لا على الاستقلال- لأنه بالنسبة لها طويت صفحته - بل على العلاقات الجديدة التي يجب إقامتها بينها وبين الدولة المستعمَرة.
هذا هو إذن لب المشكل: كان الاختلاف قائما على الحل الذي كان يمكن به الخروج من المأزق الذي تحقق للكل أن آلت إليه سياسة الحزب أمام تعنت العدو الاستعماري. إلا أن طرفي الاختلاف وقفا ضد الحل النوفمبري لعدم تقديرهما حق التقدير لمساندة الشعب لهذا الحل ولنقص وعيهما بالنوعية الجديدة التي أفضاها على الحركة الوطنية، فعارضاه مُعتبرَيْنٍه دواء أخطر من الداء.
ومن دون شك أن مصالي، مثله مثل المركزية، لم يؤمن بأبسط حظ للثورة في النجاح وكان يخشى تكرار وبأكثر فظاعة مأساة ماي 45 والمجازر الرهيبة التي اقترفها المستعمر يومها، مما كان يغمر حتى محاولته تطهير الحزب وينسفها نسفا. وكانت كلها تقديرات ومخاوف مشروعة لدى قياديين شاعرين بمسئوليتهم في صون الحزب كأداة للاستقلال وبالنسبة لمستقبل الحركة التحررية. إذ أنه يصعب على مسئولين حي ضميرهم القبول بواقع جديد يصنعه فاعلون آخرون يجردونهم بذلك من تلك المسئولية، حتى ولو بدا واضحا أن من تقلد المسئولية محلهم أتى بحل يعزز فعلا الحركة.

الثورة المُنقِذة
وكيف كان رد فعل الطرفين عند اندلاع الثورة ؟

لقد سجل مصالي بسرعة مسانده الشعب للثورة، وأمر محاولا تفادي تجريده من زمام الوضع بتزويد المجاهدين بالمعونة مطالبا مقابلها مسئوليهم بالتصريح أنهم ينشطون باسمه. وإن هذا الموقف السياسي لمصالي من نوفمبر لهو أدل بكثير من الواقعة المؤسفة التي استهدفت بوضياف وأصحابه ضربا، والتي لا بد من الرجوع بصددها إلى ما قد تكون تسببت فيه اللجنة الثورية للوحدة والعمل (crua) عن طريق ما قد يكون جاء في لسان حالها "لوباتريوط" (Le Patriote) رغم إرادة مؤسسيها في توحيد قوى الحزب من أجل العمل الثوري.
وأما "المركزيون"، فمع تأسفهم لفشل المبادرة المرتقب بالحقيق، التزموا موقفا منكمشا ما عدا الفقيد امحمد يزيد الذي أوفده رفاقه إلى الخارج قصد المطالبة بتأخير موعد الثورة إلى أمد أكثر مناسبة والذي لم يتوفر له إلا أن ينضم إليها. وأما ع. مهري، فرفض عرض بوضياف عليه مصاحبته إلى الخارج، فأُلقي عليه القبض ولم يتمكن من الالتحاق بالثورة إلا بعد تسريحه في جويلية 55. ولعله من المفيد أن نطلع عما جاء في رسالة للمرحوم عبان إلى الوفد الخارجي في 4 نوفمبر 55 وهو يقول: "كل ما يتصل بالمركزية السابقة عن بعد أو قرب يكرهه الشعب كرها. لقد نجح مصالي الخبيث في هذا الميدان، وإننا نسعى الآن جاهدين لرد الاعتبار لرجالات المركزية ولخزي مصالي، إلا أنه من الصعب جدا إقناع قرويينا بأن الذي كان يُنعت بالخائن أمس أصبح اليوم وطنيا..." (وكان عبان قد قام بتوزيع منشور في جوان 55 جاء فيه ما يلي: "... [لا بد من] فضح المصاليين على ما لا يزالون يبثونه من فوضى ولبس وكذلك المركزيين الذين يقفون وقفة المتفرج الجبان تجاه نضالنا بل يقدحون فيه خفية...") وإن هذا الوصف المر للوضع يؤكد ما جاء من شهادة على لسان ع. مهري من حالة فقدان ثقة الشعب التي آل إليها رجالات المركزية الموفدون لتوضيح قرارات مؤتمرهم.
لذا يستغرب المرء من أن أصبح مصالي من المعادين لحرب التحرير بيد أنها ضمت إلى صفوفها إثر المجهود الرائع الذي بذله عبان لحشد كل قوى الأمة في الأفلان وحولها لاسيما من كانوا سابقا "مركزيين" ومن رجالات حزب البيان والعلماء والشيوعيين بل وحتى أناس كثيرين نذكر منهم، على سبيل المثال لا الحصر، المرحوم عبد الرحمان فارس الذي كانت تحضر له السلطة الاستعمارية ليكون أول جزائري يعتلي كرسي الحاكم العام للجزائر. ويبقى التساؤل عما منع أن يُوجه هذا المجهود أيضا نحو مصالي ولرُبما أن تُولى له الأسبقية، على الأقل نظرا لما كانت له من قدرات حقيقية كان ليُجندها فعلا منذ ديسمبر 54 في المهجر وفي عدة أماكن جبلية من الوطن.
وما من شك أن كان للتعارض ولـ"صيغ السلوك والتفكير السياسي" التي حددها المأزق أثر في هذه المفارقة، وما من شك أيضا أن لمصالي قسطه في مسئولية الحرب الدامية بين الإخوة التي تواجه فيها الأفلان والأمانا (mna). إلا أن إقصاء هذا التنظيم وما كلفه من فقدان إطارات ومناضلين وطنيين خيِّرين من كلا الجانبين من الحقائق التي لا بد من الرجوع إليها والتمعن في "منطق تبلورها"، إذ أنها نتاج لتفاقم جهنمي لتناقضات الحركة الوطنية في حين كان من الممكن أن يهذبها بروز الحل الذي جاء ليخرج الحركة من الأزمة ويرفع من شأنها حتى يتوسع الـ"ببيا-أمتيالدي" إلى أن يصبح جبهة تحرير وطني تطمح إلى تمثيل الأمة بأسرها.

الإرث التاريخي والشعبي لجبهة التحرير الوطني

يجب التأمل في هذه الحلقة المأساوية من تاريخنا ولاسيما وأنها لم تُنه التضاد بين التيارين الأساسيين للحركة اللذين تستمد من كليهما ثراءها وخصوبتها: التيار "المركزي" والتيار "النوفمبري" الذي حل محل "المصالية"... وإن مكن التيار "الراديكالي" الحركة من الخروج من المأزق في 54، إلا أنه لم يكن بإمكانه تحقيق هدف الاستقلال إلا بحشده حوله للقوى الحية للحركة الوطنية كما تقدم به في تصريح أول نوفمبر، ولاسيما بعقده مع التيار "الإصلاحي" لتحالف وطني ستراتيحي، تحالف قويت أهميته بالنسبة له وللأمة بقدر ما فقد من قوة بفقدانه لجناحه المصالي، تحالف يسعى فيه ليؤكد الدور القيادي والهيمنة لخطه المؤسَّس على القطيعة مع الإصلاحية.
ولقد واجهت الحركة من خلال هذا الصراع على القيادة حلقات صعبةً أخرى ومآسٍ أخرى: وإن ما يشكل واقع "الإرث التاريخي والشعبي" و"التجربة النضالية الثمينة" الذين اكتنزتهما الحركة فصنعا مجدها، هو امتزاجُ المجابهة والشراكة بين التيارين بصِعابه وثراءه وحل المشاكل العويصة التي كان يطرحها العدو الاستعماري على الحركة بتعنته في البحث عن المقابل الجزائري الأكثر "اعتدالا" والأقل تشددا فيما يخص الاستقلال الوطني.

كيف يمكن تثمين هذا الإرث المجيد وهذه التجربة التي اكتنزها ؟

إن ما طبع الإرث التاريخي الشعبي للحركة التحررية العصرية منذ نشأتها هو أنه تراكم عن طريق الحوار والوحدة : حوار بين الحلول المختلفة التي تُقدم لتوحيد القوى الحية للأمة لمقاومة سياسة شرسة تقمع بلا رحمة أو تفسد كل محولة طعن في النظام الاستعماري. إلا أن الحوار لم يكن يخلو من الحرارة والتصادم وحتى التناحر إلى درجة أن سجلنا، بجانب شهداء سقطوا ضحية القمع الاستعماري مباشرة، فقدان وطنيين كثيرين أفذاذ راحوا ضحايا لنزاعات لم يتمكن المتنازعون فيها من حلها حلا سليما، مما دفع أحدَ مؤرخينا وهو يتكلم عن الوحدة التي أقيمت في جبهة التحرير أن ينعتها بالوهم عوض أن تكون حقيقة.
وكذلك كان الحال بالنسبة للحرب بين الإخوة في الجبهة وحركة مصالي، مُكلفة ما لا يطاق تحمله وتاركة آثارا ثابتة وآلاما وأحقادا يتبادلها الجانبان، مما يصعب مهمة مؤرخينا لتفسير تلك الصفحة المؤلمة من تاريخنا بحذافيرها، دون أن يتطرقوا لها عبر الأطروحة الضعيفة التي تقضي بـ"أن الزعيم العجوز أُقصي بسبب تسلطه المفرط وأنه لا بد من الاعتراف له بالحق الذي أفقده إياه تاريخ كتبه من انتصروا عليه..." إذ أن القضية لا تقتصر على مراجعة حدث تاريخي لإعادة الاعتبار أو عدمها لرجل متجادل فيه من رجالات حركتنا التحررية، بل إن بيت القصيد يكمن في الرجوع إلى تلك الفترة الأليمة باعتبارها إحدى محطات تاريخنا الأساسية وإحدى النقاط البارزة من الأزمة: فإن هذا البتر الذي بَترت به الحركة جسمَها من جراء استحالة إقامة الحوار وتخليصه بالوحدة قد يكون بمثابة "الخطيئة الأصلية" التي لا زالت تترتب عنها آثار مزمنة مثقلة كاهل الأمة ومصيرها... وحمدا لله أن جاء نوفمبر ملطفا لحدة ذلك التشويه بفضل الدفعة التي دفع بها عجلة التاريخ عبر تدخل الشعب الذي ألقى بثقل تأييده للثورة مضفيا الشرعية عليها.
وكما كان الحال بالنسبة للمختلف حالات الاصطدام التي تصادم فيها المسيرون إبان الحرب ولاسيما تلك التي تواجه فيها عبان وزملاءه – إلى أن عُزل وقُضي عليه لسوء الحظ – في ما يخص مشكل التفريق بين من صنفوا بـ"سياسيين" و"عسكريين" لترتيب موقعهم في الأجهزة القيادية للثورة (لجنة التسيير والتنفيذ -cce- والمجلس الوطني للثورة الجزائرية -cnra- والحكومة المؤقتة –gpra).
وكما كان الحال أخيرا بالنسبة للانقسامات الخطيرة التي برزت في القيادة يوم استقلال البلاد تاركة المناضلين والشعب في حيرة كبيرة.

(يتبع...)

Aucun commentaire: